سيرة البطل
المجاهد عمر المختار
في فصول
1
عندما غزت إيطاليا ليبيا، في الرابع من أكتوبر 1911، كان الشيخ عمر المختار، في منطقة الواحات بجنوب البلاد. وما إن نبأ إليه خبر الغزو حتى رجع إلى زاويته الدينية "القصور" بالجبل الأخضر. وباشر على الفور في تجنيد المجاهدين من قبيلة "العبيد" التي كانت تعتبره شيخها الروحي المبجل، وتمحضه ولاءها التام، ما بالك في أمر الجهاد المقدس. وعندما احتل الغزاة الإيطاليون مدينة بنغازي، في 20 أكتوبر 1911، انضم الشيخ عمر المختار بقواته إلى "دور بنينة". ومن معسكره ذاك قاد عدة معارك هجومية ضد خنادق الغزاة حول مدينة بنغازي. وقد تبين له الاختلال الكبير في توازن القوة بين المجاهدين بتسليحهم الهزيل وقوات العدو المحصنة وراء خنادقها، بأسلحتها المتطورة ذات القوة النارية الهائلة، في وقتها، من مدافع ثقيلة ومدافع رشاش. فاستنتج منهجا قتاليا يقوم على شن الهجمات الخاطفة في التوقيت الذي يختاره المجاهدون، وفقا لمبدأ الكر والفر التقليدي، والذي طوره "سي عمر" بالممارسة العملية إلى حرب عصابات استنزافية، مبنية على إستراتيجية مبتكرة للحرب الشعبية، مؤسسا بذلك مفهومها الحديث في القرن العشرين.
انسحب "سي عمر" بقواته من "دور بنينة" إلى منطقة قبيلة "العبيد". وهناك أسس "دور القصور" و"دور تاكنس"، وغيرهما من "أدوار" المجاهدين، بعدما جال في مضارب الجبل الأخضر، جامعا قبائله على كلمة سواء : الجهاد، بمعناه العسكري والشعبي. فأقام إستراتيجيته العسكرية على تقسيم المجاهدين في أدوار مسلحة حسب الظروف المكانية واللوجستية لكل منطقية. فقد يكون "الدور" مكونا من أبناء قبيلة واحدة ومنتمين إلى أكثر من قبيلة، حتى وإن سُمي باسم قبيلة معينة. وكان كل "دور" يخضع لإمرة قائد واحد ومساعدين له. وكان نظام "الأدوار" قائما على أساس وطني وليس قبلياً. يعتمد فيه مفهوم القيادة على الكفاءة العسكرية والتجربة النضالية وليس النسب أو المشيخة القبلية. فالشيخ عمر المختار، ينتسب إلى قبيلة قليلة عددا بالقياس إلى قبائل الجبل الأخضر، مثل قبيلة "العبيدات" و"البراعصة" و"الدرسة" و"العبيد"، وغيرها من قبائل برقة الكبيرة.لكن كل القبائل محضت ولاءها له، قائدا لحركة الجهاد الوطني. وقد أدرك بفطرته البدوية أن الحفاظ على جذوة المقاومة وإدامتها يعتمد على حماية الشعب لها ودعمها، في نجوعه المنتشرة في أدغال الجبل الأخضر وكهوفه وأقحافه ووديانه الوعرة، كمنطلق للكر منها على العدو في معارك خاطفة والفر إلى قواعده فيها.
وفي حياته المتوزعة بين فروض الدين ومهام الدنيا، تزوج "سي عمر" ست مرات، حسب شهادة ابنه. تزوج للمرة الأولى من امرأة تشادية أثناء جهاده هناك ضد الغزاة الفرنسيين.وأنجب منها ابنته سارة.وقد توفيت الأم وابنتها بسبب المرض بُعيد الغزو الإيطالي. فتزوج بعدها من ابنة أحد رفاقه المجاهدين، وهو السيد سعيد بزوير البرعصي. لكنها توفيت هي أيضا مريضة دون أن تنجب. فتزوج من أختها "زينة" التي أنجبت "فاطمة". وقد توفيت الأم "زينة" في المهجر بمصر، بعد إعدام "سي عمر". وتوفيت فاطمة في بنغازي العام 1992. وكان زواجه الرابع من ونيسة بنت عبد الله الجيلاني، شيخ "زاوية توكرة"، وأنجب منها ثلاثة أبناء، هم:يونس وعبدالله، ومحمد صالح، واسم الأخير أطلقه السيد إدريس السنوسي تيمنا بالمجاهد المصري محمد صالح باشا، الذي حارب مع الليبيين، في عهد السيد أحمد الشريف. وقد ماتت ونيسة في المهجر بمصر. وكان زواجه الخامس من نجوى بنت محمد المسمارى، التي استشهدت في معركة "المحيريقية" وهي حامل.فتزوج من أختها فاطمة، التي أنجبت منه ابنتها "صفية"، التي ماتت شابة نسبيا. بينما ماتت أمها فاطمة، آخر زوجات "سي عمر"، العام 2003 في مدينة بنغازي.
كان "سي عمر" صاحب شخصية عسكرية قيادية فذة، دون أن يكون قد درس، أكاديميا، الفنون العسكرية والحربية. نال إعجاب الضباط الأتراك الكبار الذين بقوا إلى جانب المجاهدين، مع بعض من القوات التركية، بعد سحب تركيا لوجودها العسكري والمدني من ليبيا تطبيقا لاتفاقية لوزان مع إيطاليا، الموقعة في 24 يوليو1923، والتي تنازلت بموجبها تركيا عن ليبيا لإيطاليا.
وإذا كان سي عمر قد سلم قيادة الجهاد في برقة للسِيد أحمد الشريف عند وصول الأخير إلى درنة العام 1913، فإنه ظل هو القائد الفعلي للمعارك في الجبل الأخضر. وفي فترة توقف حركة الجهاد، بعد خروج قوات المجاهدين من الجغبوب بقيادة السيد الشريف، بعدما توقفت المقاومة في برقة على إثر توقيع السيد إدريس السنوسي على اتفاقية "عكرمة" في ينعفوا 1917. رفض "سي عمر" الاتفاقية لأنها تقضي بوقف المقاومة في برقة وتجريد المقاومين المجاهدين من أسلحتهم خلال سنة واحدة من التوقيع عليها. لذلك ذهب "سي عمر" إلى مضارب قبيلته "المنفة" في محاولة لتشكيل قوة مسلحة من أبنائها ورجالها لاستئناف حركة الجهاد. لكن شيوخ القبيلة عارضوا رغبته، التزاما منهم بمسالمة الإيطاليين، تنفيذا لتوجيهات السيد محمد إدريس السنوسي، الذي تزعّم الطريقة السنوسية بعد السيد أحمد الشريف، وكان الليبيون في برقة يجلّون السنوسيين إجلالاً دينياً عميقا لاعتقادهم أنهم من آل البيت. فاختار "سي عمر" العودة غاضبا إلى زاويته الدينية في منطقة "القصور" بمضارب قبيلة "العبيد". ثم ما لبث سلطات الاحتلال أن نقضت اتفاقية عكرمة مع السيد إدريس السنوسي وباشرت حربها على الليبيين، كما ستنقض غيرها من الاتفاقيات مع إدريس السنوسي، مثل اتفاقيتي الرجمة وأبومريم، فغرضها كان دائما كسب الوقت كلما اشتدت المقاومة، وشق صفوف المجاهدين، والتلاعب بإدريس السنوسي كعميل، حتى اضطر للهجرة إلى مصر العام 1922، بعدما أوكل زعامة الحركة السنوسية إلى أخيه الرضا السنوسي، وأوكل قيادة حركة الجهاد إلى "سي" عمر المختار.
كانت فلسفة "سي عمر" الجهادية مبنية على أساس أن الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ويؤدى بوسائل وطرق مختلفة، نظّمها في سياق فرض ضرائب الأعشار على الحيوانات والمزروعات، وضرائب على تجارة القوافل الخارجة من برقة إلى السودان ومصر والقادمة إليها. وعمل على إخراط أهالي النجوع في خدمة حركة الجهاد، من حيث تجنيد المجاهدين وتموينهم بالغذاء وإيواء الجرحى وتمريضهم. علاوة على القيام بأداء واجب الحراسة والمراقبة، وتعويض العائلات لبعضها البعض في فقدان معيلها. وقام بجولة واسعة على قبائل برقة في سبيل توحيد حركة الجهاد تحت قيادة واحدة. ونسّق باسمها مع قادة الجهاد في طرابلس وفزان، من أجل وضع حركة الجهاد في سياق وطني عام. وبذلك جعل "سي عمر" حركة الجهاد تتحرك داخل بحرهم الشعبي الواسع. أي أنها حركة شعب بالكامل.
وبهذه الروح الجهادية الجمعوية جيّش البدو وجودهم الاجتماعي بالكامل، تقريبا، دفاعا عن وجودهم التاريخي، في جوهره الديني، الذي لا يضاهيه، في تمسكهم البسيط الصلد به، إلا الموت في سبيله، في مواجهة مشروع المستعمر الإيطالي الاستيطاني، الذي يروج لحقه في احتلال ليبيا وضمها إلى إيطاليا.وفي العهد الفاشي تشكلت إيديولوجية قوموية مهووسة بالجمع ما بين "أمجاد" الإمبراطورية الرومانية المنقرضة وروح الحروب الصليبية في العصور الوسطى، مخلوطة في تصورات إمبريالية حديثة لإحياء رميم روما القديمة في "روما جديدة". ومن هنا اعتبار ليبيا حسب التسمية التي أطلقها الدوتشي موسوليني الفاشستي (الشاطئ الرابع لإيطاليا) ، لتضاف إلى الشواطئ الثلاث الأخرى التي تحيط بشبه الجزيرة الإيطالية، وهي: الأدرياتيكي والتيراني والأيوني. وفي العام 1929 دمجت سلطات الاحتلال إيطاليا إقليمي طرابلس وبرقة في مستعمرة مركزية واحدة، أطلق عليها رسميا اسمها القديم "ليبيا" العام 1934. لكن أجناد الدوتشي المدججين بأحدث الأسلحة الحربية، وجدوا أنفسهم متورطين في أوهامهم الإمبراطورية في مواجهة موجات لا تنقطع من المجاهدين الطامعين في الشهادة، بأسلحتهم البسيطة، ناشرين الموت والرعب في قوات الاحتلال والمستوطنين.
يتبع ............المجاهد عمر المختار
في فصول
1
عندما غزت إيطاليا ليبيا، في الرابع من أكتوبر 1911، كان الشيخ عمر المختار، في منطقة الواحات بجنوب البلاد. وما إن نبأ إليه خبر الغزو حتى رجع إلى زاويته الدينية "القصور" بالجبل الأخضر. وباشر على الفور في تجنيد المجاهدين من قبيلة "العبيد" التي كانت تعتبره شيخها الروحي المبجل، وتمحضه ولاءها التام، ما بالك في أمر الجهاد المقدس. وعندما احتل الغزاة الإيطاليون مدينة بنغازي، في 20 أكتوبر 1911، انضم الشيخ عمر المختار بقواته إلى "دور بنينة". ومن معسكره ذاك قاد عدة معارك هجومية ضد خنادق الغزاة حول مدينة بنغازي. وقد تبين له الاختلال الكبير في توازن القوة بين المجاهدين بتسليحهم الهزيل وقوات العدو المحصنة وراء خنادقها، بأسلحتها المتطورة ذات القوة النارية الهائلة، في وقتها، من مدافع ثقيلة ومدافع رشاش. فاستنتج منهجا قتاليا يقوم على شن الهجمات الخاطفة في التوقيت الذي يختاره المجاهدون، وفقا لمبدأ الكر والفر التقليدي، والذي طوره "سي عمر" بالممارسة العملية إلى حرب عصابات استنزافية، مبنية على إستراتيجية مبتكرة للحرب الشعبية، مؤسسا بذلك مفهومها الحديث في القرن العشرين.
انسحب "سي عمر" بقواته من "دور بنينة" إلى منطقة قبيلة "العبيد". وهناك أسس "دور القصور" و"دور تاكنس"، وغيرهما من "أدوار" المجاهدين، بعدما جال في مضارب الجبل الأخضر، جامعا قبائله على كلمة سواء : الجهاد، بمعناه العسكري والشعبي. فأقام إستراتيجيته العسكرية على تقسيم المجاهدين في أدوار مسلحة حسب الظروف المكانية واللوجستية لكل منطقية. فقد يكون "الدور" مكونا من أبناء قبيلة واحدة ومنتمين إلى أكثر من قبيلة، حتى وإن سُمي باسم قبيلة معينة. وكان كل "دور" يخضع لإمرة قائد واحد ومساعدين له. وكان نظام "الأدوار" قائما على أساس وطني وليس قبلياً. يعتمد فيه مفهوم القيادة على الكفاءة العسكرية والتجربة النضالية وليس النسب أو المشيخة القبلية. فالشيخ عمر المختار، ينتسب إلى قبيلة قليلة عددا بالقياس إلى قبائل الجبل الأخضر، مثل قبيلة "العبيدات" و"البراعصة" و"الدرسة" و"العبيد"، وغيرها من قبائل برقة الكبيرة.لكن كل القبائل محضت ولاءها له، قائدا لحركة الجهاد الوطني. وقد أدرك بفطرته البدوية أن الحفاظ على جذوة المقاومة وإدامتها يعتمد على حماية الشعب لها ودعمها، في نجوعه المنتشرة في أدغال الجبل الأخضر وكهوفه وأقحافه ووديانه الوعرة، كمنطلق للكر منها على العدو في معارك خاطفة والفر إلى قواعده فيها.
وفي حياته المتوزعة بين فروض الدين ومهام الدنيا، تزوج "سي عمر" ست مرات، حسب شهادة ابنه. تزوج للمرة الأولى من امرأة تشادية أثناء جهاده هناك ضد الغزاة الفرنسيين.وأنجب منها ابنته سارة.وقد توفيت الأم وابنتها بسبب المرض بُعيد الغزو الإيطالي. فتزوج بعدها من ابنة أحد رفاقه المجاهدين، وهو السيد سعيد بزوير البرعصي. لكنها توفيت هي أيضا مريضة دون أن تنجب. فتزوج من أختها "زينة" التي أنجبت "فاطمة". وقد توفيت الأم "زينة" في المهجر بمصر، بعد إعدام "سي عمر". وتوفيت فاطمة في بنغازي العام 1992. وكان زواجه الرابع من ونيسة بنت عبد الله الجيلاني، شيخ "زاوية توكرة"، وأنجب منها ثلاثة أبناء، هم:يونس وعبدالله، ومحمد صالح، واسم الأخير أطلقه السيد إدريس السنوسي تيمنا بالمجاهد المصري محمد صالح باشا، الذي حارب مع الليبيين، في عهد السيد أحمد الشريف. وقد ماتت ونيسة في المهجر بمصر. وكان زواجه الخامس من نجوى بنت محمد المسمارى، التي استشهدت في معركة "المحيريقية" وهي حامل.فتزوج من أختها فاطمة، التي أنجبت منه ابنتها "صفية"، التي ماتت شابة نسبيا. بينما ماتت أمها فاطمة، آخر زوجات "سي عمر"، العام 2003 في مدينة بنغازي.
كان "سي عمر" صاحب شخصية عسكرية قيادية فذة، دون أن يكون قد درس، أكاديميا، الفنون العسكرية والحربية. نال إعجاب الضباط الأتراك الكبار الذين بقوا إلى جانب المجاهدين، مع بعض من القوات التركية، بعد سحب تركيا لوجودها العسكري والمدني من ليبيا تطبيقا لاتفاقية لوزان مع إيطاليا، الموقعة في 24 يوليو1923، والتي تنازلت بموجبها تركيا عن ليبيا لإيطاليا.
وإذا كان سي عمر قد سلم قيادة الجهاد في برقة للسِيد أحمد الشريف عند وصول الأخير إلى درنة العام 1913، فإنه ظل هو القائد الفعلي للمعارك في الجبل الأخضر. وفي فترة توقف حركة الجهاد، بعد خروج قوات المجاهدين من الجغبوب بقيادة السيد الشريف، بعدما توقفت المقاومة في برقة على إثر توقيع السيد إدريس السنوسي على اتفاقية "عكرمة" في ينعفوا 1917. رفض "سي عمر" الاتفاقية لأنها تقضي بوقف المقاومة في برقة وتجريد المقاومين المجاهدين من أسلحتهم خلال سنة واحدة من التوقيع عليها. لذلك ذهب "سي عمر" إلى مضارب قبيلته "المنفة" في محاولة لتشكيل قوة مسلحة من أبنائها ورجالها لاستئناف حركة الجهاد. لكن شيوخ القبيلة عارضوا رغبته، التزاما منهم بمسالمة الإيطاليين، تنفيذا لتوجيهات السيد محمد إدريس السنوسي، الذي تزعّم الطريقة السنوسية بعد السيد أحمد الشريف، وكان الليبيون في برقة يجلّون السنوسيين إجلالاً دينياً عميقا لاعتقادهم أنهم من آل البيت. فاختار "سي عمر" العودة غاضبا إلى زاويته الدينية في منطقة "القصور" بمضارب قبيلة "العبيد". ثم ما لبث سلطات الاحتلال أن نقضت اتفاقية عكرمة مع السيد إدريس السنوسي وباشرت حربها على الليبيين، كما ستنقض غيرها من الاتفاقيات مع إدريس السنوسي، مثل اتفاقيتي الرجمة وأبومريم، فغرضها كان دائما كسب الوقت كلما اشتدت المقاومة، وشق صفوف المجاهدين، والتلاعب بإدريس السنوسي كعميل، حتى اضطر للهجرة إلى مصر العام 1922، بعدما أوكل زعامة الحركة السنوسية إلى أخيه الرضا السنوسي، وأوكل قيادة حركة الجهاد إلى "سي" عمر المختار.
كانت فلسفة "سي عمر" الجهادية مبنية على أساس أن الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ويؤدى بوسائل وطرق مختلفة، نظّمها في سياق فرض ضرائب الأعشار على الحيوانات والمزروعات، وضرائب على تجارة القوافل الخارجة من برقة إلى السودان ومصر والقادمة إليها. وعمل على إخراط أهالي النجوع في خدمة حركة الجهاد، من حيث تجنيد المجاهدين وتموينهم بالغذاء وإيواء الجرحى وتمريضهم. علاوة على القيام بأداء واجب الحراسة والمراقبة، وتعويض العائلات لبعضها البعض في فقدان معيلها. وقام بجولة واسعة على قبائل برقة في سبيل توحيد حركة الجهاد تحت قيادة واحدة. ونسّق باسمها مع قادة الجهاد في طرابلس وفزان، من أجل وضع حركة الجهاد في سياق وطني عام. وبذلك جعل "سي عمر" حركة الجهاد تتحرك داخل بحرهم الشعبي الواسع. أي أنها حركة شعب بالكامل.
وبهذه الروح الجهادية الجمعوية جيّش البدو وجودهم الاجتماعي بالكامل، تقريبا، دفاعا عن وجودهم التاريخي، في جوهره الديني، الذي لا يضاهيه، في تمسكهم البسيط الصلد به، إلا الموت في سبيله، في مواجهة مشروع المستعمر الإيطالي الاستيطاني، الذي يروج لحقه في احتلال ليبيا وضمها إلى إيطاليا.وفي العهد الفاشي تشكلت إيديولوجية قوموية مهووسة بالجمع ما بين "أمجاد" الإمبراطورية الرومانية المنقرضة وروح الحروب الصليبية في العصور الوسطى، مخلوطة في تصورات إمبريالية حديثة لإحياء رميم روما القديمة في "روما جديدة". ومن هنا اعتبار ليبيا حسب التسمية التي أطلقها الدوتشي موسوليني الفاشستي (الشاطئ الرابع لإيطاليا) ، لتضاف إلى الشواطئ الثلاث الأخرى التي تحيط بشبه الجزيرة الإيطالية، وهي: الأدرياتيكي والتيراني والأيوني. وفي العام 1929 دمجت سلطات الاحتلال إيطاليا إقليمي طرابلس وبرقة في مستعمرة مركزية واحدة، أطلق عليها رسميا اسمها القديم "ليبيا" العام 1934. لكن أجناد الدوتشي المدججين بأحدث الأسلحة الحربية، وجدوا أنفسهم متورطين في أوهامهم الإمبراطورية في مواجهة موجات لا تنقطع من المجاهدين الطامعين في الشهادة، بأسلحتهم البسيطة، ناشرين الموت والرعب في قوات الاحتلال والمستوطنين.